فصل: تفسير الآيات (17- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (12- 14):

{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)}
قوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله} كلام مستأنف يتضمن ذكر بعض ما صدر من بني إسرائيل من الخيانة.
وقد تقدّم بيان الميثاق الذي أخذه الله عليهم. واختلف المفسرون في كيفية بعث هؤلاء النقباء، بعد الإجماع منهم على أن النقيب كبير القوم العالم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها، والنَّقَّابُ: الرجل العظيم الذي هو في الناس على هذه الطريقة، ويقال نقيب القوم لشاهدهم وضمينهم. والنقيب: الطريق في الجبل هذا أصله، وسمي به نقيب القوم لأنه طريق إلى معرفة أمورهم. والنقيب: أعلى مكاناً من العريف، فقيل المراد ببعث هؤلاء النقباء، أنهم بعثوا أمناء على الإطلاع على الجبارين، والنظر في قوّتهم ومنعتهم فساروا ليختبروا حال من بها ويخبروا بذلك، فاطلعوا من الجبارين على قوّة عظيمة وظنوا أنهم لا قبل لهم بها، فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل، وأن يعلموا به موسى، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فأخبروا قراباتهم، ففشا الخبر حتى بطل أمر الغزو،
وقالوا {اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة: 24] وقيل إن هؤلاء النقباء كفل كل واحد منهم على سبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله، وهذا معنى بعثهم، وسيأتي ذكر بعض ما قاله جماعة من السلف في ذلك.
قوله: {وَقَالَ الله إِنّى مَعَكُمْ} أي: قال ذلك لبني إسرائيل، وقيل للنقباء؛ والمعنى: إني معكم بالنصر والعون، واللام في قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة} هي: الموطئة للقسم المحذوف، وجوابه: {لأكَفّرَنَّ} وهو سادّ مسدّ جواب الشرط. والتعزير: التعظيم والتوقير، وأنشد أبو عبيدة:
وكم من ماجد لهم كريم ** ومن ليث يعزر في الندّى

أي يعظم ويوقر. ويطلق التعزير على الضرب والردّ، يقال عزّرت فلاناً: إذا أدّبته ورددته عن القبيح، فقوله: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي: عظمتموهم على المعنى الأوّل، أو رددتم عنهم أعداءهم ومنعتموهم على الثاني. قوله: {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً} أي: أنفقتم في وجوه الخير، و{قَرْضًا} مصدر محذوف الزوائد، كقوله تعالى: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران: 37] أو مفعول ثان لأقرضتم. والحسن: قيل هو ما طابت به النفس؛ وقيل ما ابتغى به وجه الله؛ وقيل الحلال. قوله: {فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك} أي: بعد الميثاق أو بعد الشرط المذكور، {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل} أي: أخطأ وسط الطريق.
قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} الباء سببية وما زائدة، أي: فبسبب نقضهم ميثاقهم: {لعناهم} أي: طردناهم وأبعدناهم {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي: صلبة لا تعي خيراً ولا تعقله. وقرأ حمزة والكسائي {قسِّية} بتشديد الياء من غير ألف، وهي قراءة ابن مسعود والنخعي ويحيى بن وثاب؛ يقال درهم قسىّ مخفف السين مشدّد الياء: أي زائف، ذكر ذلك أبو عبيد.
وقال الأصمعي وأبو عبيدة: درهم قسىّ كأنه معرب قاس. وقرأ الأعمش {قسية} بتخفيف الياء وقرأ الباقون: {قَاسِيَةً} {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} الجملة مستأنفة لبيان حالهم أو حالية: أي: يبدّلونه بغيره أو يتأولونه على غير تأويله. وقرأ السلمي والنخعي {الكلام}. قوله: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ مّنْهُمْ} أي: لا تزال يا محمد تقف على خائنة منهم، والخائنة: الخيانة؛ وقيل هو نعت لمحذوف، والتقدير فرقة خائنة، وقد تقع للمبالغة نحو علاّمة ونسّابة إذا أردت المبالغة في وصفه بالخيانة؛ وقيل خائنة معصية. قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ} استثناء من الضمير في منهم {فاعف عَنْهُمْ واصفح} قيل: هذا منسوخ بآية السيف؛ وقيل: خاص بالمعاهدين.
قوله: {وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم} الجار والمجرور متعلق بقوله: {أَخَذْنَا} والتقديم للاهتمام، والتقدير: وأخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم، أي: في التوحيد والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. قال الأخفش: هو كقولك أخذت من زيد ثوبه ودرهمه، فرتبة {الذين} بعد أخذنا.
وقال الكوفيون بخلافه؛ وقيل إن الضمير في قوله: {ميثاقهم} راجع إلى بني إسرائيل: أي أخذنا من النصارى مثل ميثاق المذكورين قبلهم من بني إسرائيل، وقال: {مِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى} ولم يقل، ومن النصارى، للإيذان بأنهم كاذبون في دعوى النصرانية وأنهم أنصار الله.
قوله: {فَنَسُواْ حَظّاً مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} أي: نسوا من الميثاق المأخوذ عليهم نصيباً وافراً عقب أخذه عليهم: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء} أي: ألصقنا ذلك بهم، مأخوذ من الغراء: وهو ما يلصق الشيء بالشيء كالصمغ وشبهه يقال: غرى بالشيء يغري غرياً بفتح الغين مقصوراً، وغراء بكسرها ممدوداً، أي أولع به حتى كأنه صار ملتصقاً به، ومثل الإغراء التحرش، وأغريت الكلب: أي أولعته بالصيد، والمراد بقوله: {بَيْنَهُمْ} اليهود والنصارى؛ لتقدم ذكرهم جميعاً؛ وقيل: بين النصارى خاصة، لأنهم أقرب مذكور، وذلك لأنهم افترقوا إلى اليعقوبية والنسطورية والملكانية، وكفر بعضهم بعضاً، وتظاهروا بالعداوة في ذات بينهم. قال النحاس: وما أحسن ما قيل في معنى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء}: أن الله عز وجل أمر بعداوة الكفار وإبغاضهم، فكل فرقة مأمورة بعداوة صاحبتها وإبغاضها قوله: {وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} تهديد لهم: أي سيلقون جزاء نقض الميثاق.
وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل} قال: أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً} أي: كفيلاً كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {اثنى عَشَرَ نَقِيباً} قال: من كل سبط من بني إسرائيل رجال أرسلهم موسى إلى الجبارين، فوجدوهم يدخل في كمّ أحدهم اثنان منهم، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس منهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربعة، فرجع النقباء كلهم ينهى سبطه عن قتالهم، إلا يوشع بن نون، وكالب بن يافنه، فإنهما أمرا الأسباط بقتال الجبارين، ومجاهدتهم فعصوهما وأطاعوا الآخرين، فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما، فتاهت بنو إسرائيل أربعين سنة، يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا في تيههم ذلك، فضرب موسى الحجر لكل سبط عيناً حجراً لهم يحملونه معهم، فقال لهم موسى: اشربوا يا حمير، فنهاه الله عن سبهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {اثنى عَشَرَ نَقِيباً} قال: هم من بني إسرائيل بعثهم موسى لينظروا إلى المدينة، فجاءوا بحبة من فاكهتهم، وفر رجل، فقال: اقدروا قوّة قوم وبأسهم وهذه فاكهتهم، فعند ذلك فتنوا فقالوا لا نستطيع القتال {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة: 24] وقد ذكر ابن إسحاق أسماء هؤلاء الأسباط، وأسماؤهم مذكورة في السفر الرابع من التوراة، وفيه مخالفة لما ذكره ابن إسحاق.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} قال: أعنتموهم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} قال: نصرتموهم.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} قال: هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه.
وأخرج ابن جرير عنه في قوله: {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} يعني حدود الله، يقولون إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه، وإن خالفكم فاحذروا، وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} قال: نسوا الكتاب.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ مّنْهُمْ} قال: هم يهود مثل الذي هموا به من النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل عليهم حائطهم.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ مّنْهُمْ} قال: كذب وفجور، وفي قوله: {فاعف عَنْهُمْ واصفح} قال: لم يؤمر يومئذ بقتالهم، فأمره الله أن يعفو عنهم ويصفح، ثم نسخ ذلك في براءة فقال: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} الآية [التوبة: 29].
وأخرج أبو عبيد وابن جرير، وابن المنذر عن إبراهيم النخعي في قوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء إلى يَوْمِ القيامة} قال: أغرى بعضهم ببعض بالخصومات والجدال في الدين.

.تفسير الآيات (15- 16):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}
الألف واللام في {الكتاب} للجنس، والخطاب لليهود والنصارى {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا} أي: محمد صلى الله عليه وسلم حال كونه: {يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب} المنزل عليكم، وهو التوراة والإنجيل: كآية الرجم وقصة أصحاب السبت الممسوخين قردة {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} مما تخفونه، فيترك بيانه لعدم اشتماله على ما يجب بيانه عليه من الأحكام الشرعية، فإنّ ما لم يكن كذلك لا فائدة تتعلق ببيانه إلا مجرّد افتضاحكم؛ وقيل المعنى: إنه يعفو عن كثير فيتجاوزه ولا يخبركم به؛ وقيل: يعفو عن كثير منكم فلا يؤاخذهم بما يصدر منهم، والجملة في محل نصب عطفاً على الجملة الحالية: أعني قوله: {يُبَيّنُ لَكُمْ}.
قوله: {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ} جملة مستأنفة مشتملة على بيان أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد تضمنت بعثته فوائد غير ما تقدم من مجرد البيان. قال الزجاج: النور: محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل الإسلام. والكتاب المبين: القرآن، فإنه المبين، والضمير في قوله: {يَهْدِى بِهِ} راجع إلى الكتاب أو إليه وإلى النور لكونهما كالشيء الواحد {مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} أي: ما رضيه الله، و{سُبُلَ السلام}: طرق السلامة من العذاب الموصلة إلى دار السلام المنزهة عن كل آفة؛ وقيل المراد بالسلام: الإسلام {وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظلمات} الكفرية إِلَى النور الإسلامي، {وَيَهْدِيهِمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} إلى طريق يتوصلون بها إلى الحق، لا عوج فيها ولا مخافة.
وقد أخرج ابن جرير، عن قتادة، في قوله: {رَسُولِنَا} قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير أيضاً عن عكرمة قال: إن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أتاه اليهود يسألونه عن الرجم فقال: أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى، والذي رفع الطور وبالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه أفكل، فقال: إنه لما كثر فينا جلدنا مائة جلدة وحلقنا الرؤوس، فحكم عليهم بالرجم، فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} يقول: عن كثير من الذنوب.
وأخرج ابن جرير عن السدي قال: {سُبُلَ السلام} هي: سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه وابتعث به رسله: وهو الإسلام.

.تفسير الآيات (17- 18):

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)}
ضمير الفصل في قوله: {هُوَ المسيح} يفيد الحصر؛ قيل: وقد قال بذلك بعض طوائف النصارى؛ وقيل: لم يقل به أحد منهم، ولكن استلزم قولهم: {إِنَّ الله هُوَ المسيح} لا غيره، وقد تقدّم في آخر سورة النساء ما يكفي ويغني عن التكرار. قوله: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً} الاستفهام للتوبيخ والتقريع، والملك، والملك: الضبط والحفظ والقدرة، من قولهم ملكت على فلان أمره: أي قدرت عليه، أي فمن يقدر أن يمنع {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن في الأرض جَمِيعاً} وإذا لم يقدر أحد أن يمنع من ذلك، فلا إله إلا الله، ولا ربّ غيره، ولا معبود بحق سواه، ولو كان المسيح إلهاً كما تزعم النصارى، لكان له من الأمر شيء، ولقدر على أن يدفع عن نفسه أقلّ حال، ولم يقدر على أن يدفع عن أمه الموت عند نزوله بها، وتخصيصها بالذكر مع دخولها في عموم من في الأرض، لكون الدفع منه عنها أولى وأحق من غيرها، فهو إذا لم يقدر على الدفع عنها، أعجز عن أن يدفع عن غيرها، وذكر {من في الأرض} للدلالة على شمول قدرته، وأنه إذا أراد شيئاً كان لا معارض له في أمره، ولا مشارك له في قضائه: {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي: ما بين النوعين من المخلوقات. قوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} جملة مستأنفة مسوقة لبيان أنه سبحانه خالق الخلق بحسب مشيئته، وأنه يقدر على كل شيء لا يستصعب عليه شيء.
قوله: {وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} أثبتت اليهود لأنفسها ما أثبتته لعزير، حيث قالوا {عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30] وأثبتت النصارى لأنفسها ما أثبتته للمسيح حيث قالوا {المسيح ابن الله} [التوبة: 30] وقيل هو على حذف مضاف: أي نحن أتباع أبناء الله، وهكذا أثبتوا لأنفسهم أنهم أحباء الله بمجرد الدعوى الباطلة والأماني العاطلة، فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يردّ عليهم، فقال: {قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم} أي: إن كنتم كما تزعمون، فما باله يعذبكم بما تقترفونه من الذنوب بالقتل، والمسخ، وبالنار في يوم القيامة كما تعترفون بذلك، لقولكم: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} [التوبة: 8] فإن الابن من جنس أبيه لا يصدر عنه ما يستحيل على الأب وأنتم تذنبون، والحبيب لا يعذب حبيبه وأنتم تعذبون، فهذا يدلّ على أنكم كاذبون في هذه الدعوى. وهذا البرهان هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف. قوله: {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} عطف على مقدّر يدلّ عليه الكلام: أي فلستم حينئذ كذلك، {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} أي: من جنس من خلقه الله تعالى يحاسبهم على الخير والشرّ، ويجازي كل عامل بعمله {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} من الموجودات {وَإِلَيْهِ المصير} أي: تصيرون إليه عند انتقالكم من دار الدنيا إلى دار الآخرة.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء وبحري بن عمرو وشاس بن عدّي فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله، وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوّفنا يا محمد نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ كقول النصارى؛ فأنزل الله فيهم: {وَقَالَتِ اليهود والنصارى} إلى آخر الآية.
وأخرج أحمد في مسنده عن أنس قال: مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه وصبيّ في الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى وتقول، ابني ابني، فسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، والله لا يلقي حبيبه في النار» وإسناده في المسند هكذا: حدّثنا، ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس فذكره. ومعنى الآية يشير إلى معنى هذا الحديث، ولهذا قال بعض مشايخ الصوفية لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فلم يردّ عليه، فتلا الصوفيّ هذه الآية، وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا، والله لا يعذب الله حبيبه، ولكن قد يبتليه في الدنيا».
وأخرج ابن جرير عن السدّي في قوله: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} يقول: يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذبه.